الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشنقيطي: قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}.هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل: القيلولة أو مكانها؛ وهي: الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار كما ورد في حديث انتهى منه مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} والظاهر في الجواب أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يدل بمفهومه أيضًا على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدًا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن، والكروب والهموم سبب لطوله كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:وقال الآخر: ولقد أجاد من قال: ومثل هذا كثير في كلام العرب جدًا.وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلًا؛ لأن المعنى على هذا القول أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مأوى ومنزلًا والعلم عند الله تعالى. اهـ. .تفسير الآيات (25- 31): قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما كان للكفرة في هذه الدار من العز والقوة والضخامة ما يتعجبون معه من مصير حالهم وحال أخصامهم إلى ما ذكر، بين أن الأمر في ذلك اليوم على غير ما نعهده، فقال عاطفًا على {يوم يرون} {ويوم تشقق} أي تشققًا عظيمًا وإن كان فيه خفاء على البعض- بما أشار إليه حذف تائه {السماء بالغمام} أي كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وأشار إلى جهل من طلبوا نزولهم دفعة واحدة بقوله: {ونزل} أي بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه، بأمر من لا أمر لغيره {الملائكة} الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد {تنزيلًا} في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما-: تشقق السماء في الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الدنيا من الجن والإنس، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا وأهل الأرض جنًا وإنسًا ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكروبيون ثم حملة العرش.ولما كان ذلك اليوم سببًا لانكشاف الأمور ومعرفة أنه لا ملك لسواه سبحانه لأنه لا يقضي فيه غيره قال: {الملك يومئذ} أي يوم إذ تشقق السماء بالغمام؛ ثم وصف الملك بقوله: {الحق} أي الثابت معناه ثابتًا لا يمكن زواله؛ ثم أخبر عنه بقوله: {للرحمن} أي العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل ورده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، ومعنى التركيب أن ملك غيره في ذلك اليوم إنما هو بالاسم الذي تقدم له في الدنيا تسميته به فقط، لا حكم له أصلًا ولا ظاهرًا كما كان في الدنيا {وكان} أي ذلك ايوم الذي تظهر فيه الملائكة الذين طلب الكفار رؤيتهم {يومًا على الكافرين} أي فقط {عسيرًا} شديد العسر والاستعار.ولما كان حاصل حالهم أنهم جانبوا أشرف الخلق الهادي لهم إلى كل خير، وصاحبوا غيره ممن يقودهم إلى كل شر، بين عسر ذلك اليوم الذي إنما أوجب جرأتهم تكذيبهم به بتناهي ندمهم على فعلهم هذا فقال: {ويوم يعض الظالم} أي لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال {على يديه} أي كلتيهما فيكاد يقطعهما لشدة حسرته وهو لا يشعر، حال كونه مع هذا الفعل {يقول} أي يجدد في كل لحظة قوله: {يا ليتني اتخذت} أي أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا {مع الرسول سبيلًا} أي عملًا واحدًا من الأعمال التي دعاني إليها، وأطعته طاعة ما، لما انكشف لي في هذا اليوم من أن كل من أطاعه ولو لحظة حصلت له سعادة بقدرها، وعض اليد والأنامل وحرق الأسنان ونحو ذلك كناية عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما، فتذكر الرادفه دلالة على المردوف فيرتفع الكلام في طبقة الفصاحة إلى حد يجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند المكنى عنه.ولما تأسف على مجانبة الرسول، تندم على مصادقة غيره بقوله: {يا ويلتي} أي يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره لأنه ليس بحضرتي سواه.ولما كان يريد محالًا، عبر بأداته فقال: {ليتني لم أتخذ فلانًا} يعني الذي أضله- يسميه باسمه، وإنما كنى عنه وهو سبحانه لا يخاف من المناواة، ولا يحتاج إلى المداجاة، إرادة للعموم وإن كانت الآية نزلت في شخص معين {خليلًا} أي صديقًا أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها، ثم استأنف قوله الذي يتوقع كل سامع أن يقوله: {لقد} أي والله لقد {أضلني عن الذكر} أي عمّي عليّ طريق القرآن الذي لاذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها {بعد إذ جاءني} ولم يكن لي منه مانع يظهر غير إضلاله.ولما كان التقدير: ثم ها هو قد خذلني أحوج ما كنت إلى نصرته، عطف عليه قوله: {وكان الشيطان} أي كل من كان سببًا للضلال من عتاة الجن والإنس {للإنسان خذولًا} أي شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره، لا ينصره، ولو أراد لما استطاع، بل هو شر من ذلك، لأن عليه إثمه في نفسه ومثل إثم من أضله.ولما ذكر سبحانه أقوال الكفار إلى أن ختم بالإضلال عن الذكر، وكانوا مع إظهارهم التكذيب به وأنه مفتعل في غاية الطرب له، والاهتزاز به، والتعجب منه، والمعرفة بأنه يكون له نبأ، أشار إلى ذلك بقوله: عاطفًا على {وقالوا ما لهذا الرسول} معظمًا لهذه الشكاية منه صلى الله عليه وسلم، مخوفًا لقومه لأن الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا شكوا أنزل بقومهم عذاب الاستئصال: {وقال الرسول} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم: {يا رب} أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة، وعبر بأداة البعد هضمًا لنفسه مبالغة في التضرع {إن قومي} أي قريشًا الذين لهم قوة وقيام ومنعة {اتخذوا} أي يتكليف أنفسهم ضد ما تجده {هذا القرآن} أي المقتضي للاجتماع عليه والمبادرة إليه {مهجورًا} أي متروكًا، فأشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجًا كثيرًا، لما يرون من حسن نظمه، ويذوقون من لذيذ معانيه، ورائق أسالبيه، ولطيف عجائبه، وبديع غرائبه، كما تعرّف به قصة أبي جهل وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق حين كانوا يستمعون لقراءته ليلًا، كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحباه، ثم يجمعهم الطريق إذا أصبحوا فيتلاومون ويتعاهدون على أن لا يعودوا، ثم يعودون حتى فعلوا ذلك ثلاث ليال ثم أكدوا على أنفسهم العهود حتى تركوا ذلك كما هو مشهور في السير.ولما كان في هذا الكلام معنى الشكاية وشدة التحرق، وعظيم التحزن كما يشير إليه إثبات يا التي للبعد، على خلاف ما جرت به العادة في نداء الخواص الذين هو أخصهم، والاستفهام عن سبب هجرانهم مع ما لهم إليه من الدواعي، كان كأنه قيل: ذلك بأن من فعله عاداك حسدًا لك، وعطف عليه: {وكذلك} أي ومثل ما فعلنا من هذا الفعل العظيم وأنت أعظم الخلق لدنيا {جعلنا} بما لنا من العظمة {لكل نبي} أي من الأنبياء قبلك، رفعة لدرجاتهم {عدوًا من المجرمين} الذين طبعناهم على الشغف بقطع ما يقتضي الوصل فأضللناهم بذلك إهانة لهم فاصبر كما صبروا فإني سأهدي بك من شئت، وأنصرك على غيرهم، وأكرم قومك من عذاب الاستئصال تشريفًا لك.ولما كان موطنًا تعلق فيه النفوس متشوقة إلى الهداية بعد هذا الطبع، والنصرة بعد ذلك الجعل، كان كأنه قيل: لا تحزن فلنجعلن لك وليًا ممن نهديه للإيمان، ولننصرنهم على عدوهم كما فعلنا بمن قبلك، بل أعظم حتى نقضي أممهم من ذلك العجب، ولا يسعهم إلا الخضوع لكم والدخول في ظلال عزكم، ولما كان ذلك- لكثرة المعادين- أمرًا يحق له الاستبعاد، قال عاطفًا على ما تقديره؛ ثم نصر إخوانك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على من جعلهم أعداءهم ربُّك الذي أرسلهم: {وكفى بربك} أي المحسن إليك {هاديًا} يهدي بك من قضى بسعادته {ونصيرًا} ينصرك على من حكم بشقاوته. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)}.اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات:الصفة الأولى: أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام، وفيه مسائل:المسألة الأولى:قوله: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] يدل على التشقق وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} [البقرة: 210] يدل على الغمام فقوله: {تَشَقَّقُ السماء بالغمام} جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا} [النبأ: 19] وقوله: {فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16].المسألة الثانية:قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين هاهنا وفي سورة ق، والباقون بالتشديد، قال أبو عبيدة: الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق.المسألة الثالثة:قال الفراء: المراد من قوله: {بالغمام} أي عن الغمام، لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18].المسألة الرابعة:لابد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة، فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها، ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلًا بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض.
|